توصل باحثون إلى تحديد منطقة في الدماغ تعمل على إثارة الرغبة لدى البعض في تناول المزيد من الطعام بما يفوق حد الشبع. وقال الباحثون إن من المحتمل الاستفادة من هذا الاكتشاف في وضع إستراتيجية علاجية للسمنة عبر استهداف زيادة نشاط تلك المنطقة الدماغية المتحكمة بالشعور بالجوع.
وبهذا تزداد وضوحاً ملامح صورة تلك العلاقة في ما بين الدماغ من جهة وبين كل من شهية الأكل والجوع والشبع من جهة أخرى. وتكتسب الدراسات والبحوث الطبية حول دور الدماغ في تنظيم وضبط شهية الأكل ومقدار ما يتناوله المرء منه، أهمية عالية اليوم، نظراً للانتشار «الوبائي» لحالات كل من السمنة وزيادة الوزن. إذْ تشير الإحصاءات الطبية، في الدول التي تهتم بإجرائها وتستفيد منها، إلى أن حوالي ثلثي السكان إما مصابون بزيادة الوزن أو بالسمنة، كما في الولايات المتحدة. وهذا ما يستهلك في تلك الدولة حوالي 93 مليار دولار سنوياً، أي حوالي 9% من النفقات الصحية على المستوى القومي، في تكاليف العناية بالسمنة وتبعاتها الصحية سنوياً.
تمارين الآيروبيك و علاقتها بتقليل الجوع
خطوات لتتغلبي على الإحساس بالجوع
لمتابعة جديد هذا القسم اشتركي هنا
وثمة قصة طبية لمراحل بحث العلماء في علاقة الدماغ بالسمنة، خاصة في جوانب تعليل الإقبال على المأكولات، التي يتفق البشر على أنها لذيذة الطعم عند الأكل والاستمتاع به، كي تُضاف هذه القصة إلى قصة أخرى، سبق طرحها في ملحق الصحة بـ «الشرق الأوسط» بتاريخ 12 يناير 2006، عن تأثيرات تفاعل أعصاب الإحساس بطعم الدهون في الفم، على السمنة وزيادة الوزن. شهية عصبية كيميائية وبالرغم من عدم اكتشاف البشر لأي وسيلة علاجية «تشفي» من السمنة أو زيادة الوزن، إلا أن السنوات القليلة الماضية شهدت في الواقع حالة من «الطفرة» الحميدة في معرفة البشر بتلك الطرق التي تتحكم وتضبط رغباتنا في تناول الأطعمة، والتي إذا ما حصل فيها أي اضطرابات، ظهرت مشاكل السمنة أو زيادة الوزن. وما تتجه المعرفة الطبية نحو جلاء جوانبه، هو آليات تلك العمليات العصبية الكيميائية المعقدة complex neurochemical التي تنظم شهيتنا لتناول الأكل وعلاقتها بوزن جسم أحدنا. وأهمية هذه المعرفة هي لفهمنا بشكل أوسع سبب وكيفية إصابة البعض بالسمنة، ولإيضاح تأثيرات أنواع الحمية على وزن الجسم وتمييز ما هو فاعل ومفيد منها، ولجلاء حقيقة العلاقة بين السمنة وبين مضاعفاتها، كالسكري وأمراض شرايين القلب وغيرهما، ولوضع وسائل علاجية آمنة وفاعلة للسمنة.
والعلماء قد بدأوا بالفعل في بعض من جهود الترجمة التطبيقية لتلك المعلومات المتوفرة حول دور الجهاز العصبي في الأكل، نحو تطوير وسائل علاجية واعدة قد تقطع من الأصل مشاكل اضطرابات الوزن، لأن الحاجة إلى مثل هذه الوسائل الآمنة والفاعلة، تمليها تلك الضرورات التي اتضحت من فشل الطرق العلاجية الموجهة نحو حل «عالمية» مشكلة السمنة أو اضطرابات الوزن، مثل الوسائل الجراحية المستنفدة لطاقات المعدة في علاج مشكلة السمنة والمتسببة بتبعات صحية خطيرة، والتي سبق طرحها في ملحق «الشرق الأوسط» بتاريخ 18 أكتوبر 2007. وكذلك من صعوبة اتباع الكثيرين للحمية الغذائية الصحية، وظهور موضات من الحميات الغذائية غير الصحية ذات التأثيرات الصحية الضارة على المدى البعيد. وتسبب العلاجات الدوائية الواسعة الانتشار، مثل زينيكال، في مضاعفات صحية على مستخدميها وفي أيضاً المحدودية الشديدة في إنقاص الوزن.
* اختراق تاريخي ويُعتبر اكتشاف هرمون ليبتين leptin عام 1994 اختراقا تاريخيا رئيسيا في حقل دراسات العلوم العصبية لفهم السمنة. ذلك أنه ولأول مرة، يُكشف النقاب عن وجود هرمون تفرزه خلايا الأنسجة الشحمية ويتحمل مسؤولية مهمة في الحث على عملية تناول الطعام. ويُؤدي ارتفاع نسبة هرمون ليبتين إلى تنشيط عمل خلايا معينة في الدماغ تعمل على إثارة الشعور بالشبع والامتلاء وخمود الرغبة في شهية الأكل، بينما يُؤدي انخفاض نسبته إلى إثارة الشعور بالجوع. بل وصل العلماء إلى حد الاعتقاد بأن دور هرمون ليبتين أهم من هرمون الأنسولين في تنظيم التوازن ...
أهم من هرمون الأنسولين في تنظيم التوازن الدقيق والحساس فيما بين كمية طاقة (كالورى) وجبات الطعام المتناولة وبين حرق واستهلاك الجسم لتلك الطاقة الداخلة عليه.
هذا ولا يزال يوجد شيء من الغموض حول كيفية عمل هرمون ليبتين على ضبط الشهية للأكل، إلا أن البحوث الحديثة تُوحي بأن هرمون ليبتين يضبط شهية الأكل عبر التفاعل مع مناطق معينة في الدماغ معنية بالشعور بالمكافأة والمردود، ما يجعل من تناول أطعمة شهية معينة أكثر متعة للإنسان. وهنا بيت القصيد في شأن الشهية والأكل والسمنة، إذ ان «المتعة» و«اللذة» هي المسيطرة على المرء حال تناوله للطعام وإكثاره منه، نتيجة للاستمتاع به بالدرجة الأولى. ولذا تشير تلك الدراسات إلى أن أطعمة حلوة الطعم ودسمة المحتوى، تثير الرغبة في تناولها، بخلاف أطعمة صحية غير مثيرة للرغبة في تناولها كالخضار النيئة في السلطات أو الحبوب الكاملة المجردة.
لكن الآمال باستخدام طريقة علاجية ما للتعامل مع هرمون ليبتين باءت في بداياتها بالفشل، لأن العلماء اكتشفوا أن الأمور، في جانب دور الجهاز العصبي والهرموني على السمنة، هي أعقد بكثير من مجرد اكتشاف هرمون واحد وتحديد بعض من ملامح تأثيراته على مناطق متعددة من الجسم. ولاحظوا أن قلة جداً من البدينين يستجيبون لتأثيرات تناول هذا الهرمون، أما الغالبية فتنشأ لديهم حالة من مقاومة الجسم وممانعته لتأثيرات الكميات المتناولة منه.
* هرمون غريلين ثم جاء الحديث عن هرمون آخر يُدعى هرمون غريلين Ghrelin. وغريلين هرمون تم اكتشافه عام 1999، وتفرزه الخلايا المبطنة لأعلى المعدة، بهدف إثارة الشهية للأكل. ولذا ترتفع نسبة هذا الهرمون قبل الأكل، وتنخفض بعده. كما تنخفض نسبة هرمون غريلين لدى منْ تم لهم إجراء عمليات تقليص وتحزيم المعدة، وتقل بالتالي لديهم الشهية للأكل حتى قبل تناول الواحد منهم للطعام. ويُعتبر هرمون غريلين، الهرمون المضاد في المفعول لهرمون ليبتين، الذي هو، كما تقدم، هرمون تفرزه خلايا الأنسجة الشحمية لإثارة الشعور بالتخمة والشبع. إلا أن عمل هرمون غريلين أسرع ويتفاعل الجسم معه على مستوى «ما بين وجبة والتالية لها»، ولذا ترتفع نسبته في الدم سريعاً لتخبر الدماغ بأن المعدة خالية، وبمجرد امتلاء المعدة، بالأكل أو أي شيء آخر كبالون منفوخ، ينخفض مستواه. لكن المفارقة، التي قد تحير البعض، هي أنه بشكل عام في المقارنة، تقل نسبة هذا الهرمون في أجسام الأشخاص البدينين مقارنة بالنحيفين! إلا أن الأهم في الأمر هو أن الإنسان حينما يبدأ بحمية غذائية، قاسية أو حنونة، فإن نسبة هرمون غريلين تبقى مرتفعة بشكل متواصل، ما يزيد من العبء على الدماغ، وما يثير الشعور الدائم بالحاجة إلى ضرورة تناول الطعام، وبالتالي ما يُؤدي إلى فشل التزام المرء بالاستمرار في تلك الحمية. ولذا ثمة باحثون يُحاولون البحث عما يُعيق عمل أو إنتاج هرمون غريلين لمساعدة المرء على استمراره في حمية إنقاص الوزن. كما أن ثمة من يعمل على إنتاج لقاح يقوم بإعاقة وصول هرمون غريلين إلى خلايا الدماغ، وبالتالي منع تأثرها بمفعول هذا الهرمون، كوسيلة لإنقاص الوزن.
* بحوث متواصلة وتواصلت الدراسات العلمية لفحص علاقة هذا الهرمون بهرمون آخر يُدعى هرمون أوبستاتين Obestatin. وهرمون أوبستاتين يعمل على خفض مستوى شهية الأكل، وتم اكتشافه في عام 2005. وأهمية معرفة العلاقة بينهما ليست نابعة فقط من ذلك التضاد في ما بين مفعول كل منهما، بل أيضاً من أنهما يُنتجان في خلايا الجسم تحت تأثير «جين» وراثي واحد.
إلى أن وصلت البحوث إلى دراسة جانب آخر يتعلق بمناطق «أرصفة الموانئ» في الخلايا العصبية، والتي تستقبل وتتفاعل مع هرمون آخر، معني بشأن الشهية والجوع، ويُدعى ميلانوكورتين-4 Melanocortin-4. وكان قد تبين أن هذا الهرمون حينما ينشط، فإنه يُخفّض الشعور بشهية تناول الأكل. وانه حينما ينخفض مستواه أو لا يتم إنتاجه في جسم إنسان ما، فإن السمنة هي النتيجة. وكانت الدراسات على الفئران قد دلت على أن هذا الهرمون يعمل على مناطق معينة في الدماغ، منها منطقة «لوزة الدماغ». ولذا عندما ينشط في إثارة هذه المنطقة الدماغية، فإن كمية الأنسجة الشحمية في الجسم تقل عبر تقليل الرغبة في الأكل. كما أن الدراسات تلك دلت على أن تأثير هذا الهرمون على مناطق أخرى من الدماغ يعمل على تنشيط استهلاك وحرق الجسم للطاقة التي تراكمت خاماتها في الجسم نتيجة للأكل.
والدراسة الأميركية الجديدة، محل العرض، تأتي مكملة للمشوار العلمي، المتقدم الذكر، في توضيح دور الدماغ والجهاز العصبي في زيادة الوزن والسمنة عبر اضطرابات شهية الأكل والشبع والجوع. وللقيام بالدراسة، استخدم الباحثون من مختبرات بروكهافن القومية، التابعة للحكومة الأميركية، تقنية تصوير ...